19‏/02‏/2009

تقنيات التكثيف والسرد في شجرة المطر


الصديق بودوارة هذا الكاتب الصحفي تعرفت على نتاجه في بداية التسعينيات من القرن الماضي ، وهو معنيّ بما يكتب شغوفٌ بالقصّة على وجه الخصوص ، عرفته يحيط قصته ومقالته بكل ما أمكنه من عناية ، فهو ينمّقها ويراجعها عدة مرات ثم يعيد كتابتها يخطه الحسن ، وهذه ميزة أخرى خصّ بها نفسه وجمّـلتْ عمله .. بدأت أتعرف على هذه الخصائص فيه عند ولادة صحيفة الجبل الأخضر لأول مرة سنة 1991 .. كنا معا أنا والصّديق والناجي الحربي وسالم الهنداوي ومحمد يوسويق فريقا واحدا للتحرير .. وكان فارس العوامي وسعد العبرة وفوزي الغويل وعلي فرحات أكثر الكتاب نتاجا وترددا على الصحيفة ، ثم ووفد على الصحيفة كثير ممن أراهم الآن أمامي .
ومع تفرّد الصديق بودوارة بأشياء سأذكرها إلا أنه ينضوي مع عدة قاصين آخرين في تقارب شكلي وموضوعي ؛ كإبراهيم بيوض في مجموعته القصصية خفايا التأويل ، ومحمد الزنتاني في الصهيل ، ونجوى بن شتوان في قصص ليست للرجال ، ومفتاح قناو في عودة القيصر وسالم العبار في خديجار ، وخليفة حسين مصطفى في القضية وصخب الموتى ، وأحمد نصر في الحساب والجفاف ، ومحمد سالم الحاجي في الوجه الآخر مع اختلاف الذائقة الأدبية بينهم في الموضوع ، أما في الشكل فله وضعه الخاص لما سأقوله من أسباب .
شجرة المطر هي المجموعة القصصية الأولى للكاتب الصديق بودوارة ، وقد حشد فيها إمكانياتٍ لم يحشد مثلها في ما تلاها من مجموعاته القصصية .
أول ما نلمحه على (شجرة المطر)كونَها تمثّل دنيا كبيرة ، ليس للحاضر الليبي فحسب وإنما هي تحمل الصفة العالمية نظرا للهموم المشتركة التي تعتري البشر جميعهم ، فهذا الرمز الكبير الذي وضعه لقرية (أم الجراد) له نظير واقعي زمانا ومكانا وشخصيات في أرجاء هذه المعمورة ..
وإلى حد الآن ـ ومن وجهة نظري على الأقل ـ تعتبر شجرة المطر من أروع ما كتب الصديق بودوارة ؛ لأنها مكتوبة بلغة راقية تنأى عن المباشرة وتحيل إلى شفافية الإيحاء .. فشجرة المطر يمكن أن تُقرأ عديد المرات بوجهات نظر مختلفة لما بها من تكثيف يحتمل أكثر من معنى .. وعلى سبيل المثال ، فاختراع العفريت من وراء الطبيعة وطلوعه في هذه القرية البائسة توحي بأن مشاكل هذه القرية من العسير حلها إلا بأعجوبة كأعجوبة العفريت .. هذا العفريت السيئ الحظ الذي اُستغل استغلالا سيئا إذ صار بمثابة عصا موسى بالنسبة لعابر السبيل الذي وجده .. كما ترمز المطالب التي انكبت على رأس العفريت إلى تكالب الناس وهلعهم وإطلاق العنان لغريزة التملـّك فيهم ، ودموع العفريت التي سكبها عندما أصيب بالغثيان والملل من سماجة وطمع البشر متمثلة في عابر السبيل ، وكونت هذه الدموع بحيرة من الملح في قرية أم الجراد ، ترمز تلك الدموع إلى البكاء على القناعة الميئوس منها في نفوس الناس .. فالعفريت والقرية رمز كبير يستغرق هموم الدنيا وشقائها وغطرستها على أن يكون لكلِّ شخصٍ نصيب في ذلك ، كما النصيب لسكان قرية أم الجراد سواء بسواء.. وذلك الملح يحوي مفارقة ذهنية ، فمن جانب هو فأل حسن يستملح به في تراثنا الشعبي ، وهذا جانب مضيء ، إلا أن له في قرية أم الجراد جانب مظلم فالملح يرمز إلى النكد والتعاسة وصعوبة العمل وثقله ، لا يشتغله إلا من كُتب عليه الشقاء ، كما يحيلنا إلى كونه حارقا يحرق الأكباد ، ومعادلا موضوعيا للأعمال الشاقة التي يمارسها أهالي أم الجراد كل يوم ، شقاء نحس به حتى في اسمها الشرس (أم الجراد) ، يرمز إلى القحط والجدب وفراغ الجيوب .. كل ذلك تلميحا وليس تصريحا. وهذه هي الأوتار غير المرئية التي يعزف عليها الصديق بودوارة .
وفي أم الجراد أتى القاص على ذكر جمال النساء فيها ، وإنهن المتعة الوحيدة في هذا الجفاء القابع في أم الجراد، والجانب المسلـِّي الوحيد الذي يخفف من عناء الرجال ، ليرمز بذلك إلى أن الإنسان إذا حاق به الفقر والتعاسة قد ينسى كل زخارف الدنيا وبهجتها عدا بهجته نحو النساء .
أما في قصة (شجرة المطر) التي جعلها عنوانا للمجموعة ، هذه الشجرة التي نبتت فجأة في أرض أم الجراد القاحلة ، فهي معنىً كبير ومكثف جدا ، ترمز إلى عدة أشياء متقاربة ، فشجرة المطر من احتمالاتها الرمزية الخلاص والملاذ المؤقت لأهالي أم الجراد .. شجرة المطر قد ترمز إلى كرّ الزمان وفرّه ، قبول الدنيا على الإنسان وفرارها ، وترمز أيضا إلى الفرصة التي تتاح للبعض ويحرم منها البعض الآخر ؛ فجياش الأعرج من بين الذين أتيحت لهم هذه الفرصة ، وشفي من عرجه عندما أكل من أوراق شجرة المطر المفلطحة .. فالعبارة مكثفة وتشير إلى عدة احتمالات .
في حين بدأت الشجرة تغير عادتها وترفض الاستشفاء بها ، ولم تعطي الذين تأخروا في زيارتها إلا طعمها المر.. وصارت النساء يلدن إناثا ممسوخين ما يرمز إلى حالة من التأزّم والتوتر، ما يرمز إلى همٌّ جديد على رؤوس سكان أم الجراد إضافة إلى همومهم السابقة.
وثمة قاسم مشترك بين قصة أم الجراد وبقية القصص الأخرى، هو كونُها تدور جميعا على البؤس بأشكاله المختلفة .. فالسكان في قرية أم الجراد فقراء معدمون ، ليس أمامهم غير جمع الملح من قاع البحيرة وفيه من العناء ما فيه .. والزلزال في قصة الزلزال لم يكتو بناره وبوائقه سوى ساكني الأكواخ الذين يعانون سوء التغذية وذل السؤال والجوع الكافر.. وقصة (مجهول) يموت فيها الجمل وراكبُه في جحيم الصحراء الواسعة .. وقصة دائرة الذات قصة إنسان موجوع القلب ومهموم إلى الثمالة ، دخل الفلم ليسرّي عن نفسه ويخفف عنها مشاكسة الزمان فشاهد في الفيلم تعاسة توازي تعاسته ، كان بطل الفيلم معادلا موضوعيا له ، يشبهه في كل الظروف وعلى كل الأصعدة.. أما قصة (حوار ميت حول رجل ميت) هذا العنوان الذي يكفي دليلا على دوران القصة حول التعاسة.. كذلك ينتشر عنصر الموت والردى والمرض في قصص : الذاكرة بدون ـ النبوءة ـ نوبة ربو ـ .. كما تكون الحماقة وقلة الذوق وسوء التصرف سببا في أن يعيش الإنسان عيشة رديئة ، وهذا ما تعرب عنه قصص (هزيمة الحاج فضل الله) و (مسألة كرامة ) و (الزيارة) باستثناء قصص (الرهان) و (واسطة خير) و (المباراة) كانت في منجاة من الموت والجوع والمرض الذي حاز اهتمام القصص السابقة في المجموعة وهي كثيرة..
وإذا اتجهنا إلى التقنيات السردية في شجرة المطر فإن أول ما نجده هو هيمنة ضمير الغائب على ضمير المتكلم والمخاطب ، وهذا لا يمنع إحالة الراوي الكلام المباشر إلى شخصياته مما يحيل القصة إلى الراوي الأحادي مقابل الراوي العليم .. وكخصيصة سردية أخرى لا تكاد تخلو قصة من بعض الحوارات القصيرة . فضلا عن وجود عدد هائل من التناص الجزئي، كما هناك تناص كامل كتوارد أفكار بين قصة (الرهان) وقصــة (فراشية) لخليفة التليسي ، أما قصة (مجهول) فتتناص تناصا جزئيا مــــــــــــــع قصة (جرعة من دم) لإبراهيم الكوني ، كما هناك مفارقات وحوار داخلي ، وعدد هائل من الصور البيانية خاصة التشبيه بإضافة ذلك كله إلى الخيال الفنتازي المتمثل في المادة الغرائبية التي عالج بها موضوعه في قصتي أم الجراد وشجرة المطر فضلا عن التشيؤ
(1) الحاصل على لسان الجمل في قصة(مجهول).

فأم الجراد وشجرة المطر مكللان بالرمز ، فالمكان رمزي والشخصيات رمزية.. والموضوع برمته تلميح غير مباشر، فهناك حرص شديد على تكثيف المعاني كملمح عام كما يبدو على الأحداث التي اعتمدها الراوي ؛ فدموع العفريت والملح والفحم كلها تؤدّي إلى معانٍ ، فضلا عن العفريت نفسه الذي يساوي البحث عن معجزة تلتئم بها جروح البشر ، إضافة إلى معجزة شجرة المطر التي تلمِّح إلى معجزة وأمنية من الأماني الصعبة التي تلتئم بها جروح أخر غير التي ذكرها من وجد العفريت كل ذلك شكَّل الصراع
(2).
فمن قبيل التناص مثلا قول الراوي : كلهم أحسّوا أن شمسا مختلفة المذاق ستشرق عليهم صباح الغد
(1) ، وهذا يتناص مع عبارة (شمس مرة المذاق) لأحد الشعراء المحدثين ، والعبارة من قبيل تراسل الحواس (2) وذلك بقصد تكثيف المشهد وتعميق الإدراك .. وتراسل الحواس ، هذا المصطلح النقدي، هو نفسه خصيصة من خصائص السرد ..
كما نجد مجموعة كبيرة من التناص غير ذلك كهذا التناص المزين بالتشبيه في قصة (هزيمة الحاج فضل الله) ‘ عندما انشغل القوم بتنقية أسنانهم من الفضلات بطريقة يتبرأ منها الذوق كما تبرأ الذئب قديما من دم يوسف
(3).. ومن التناص أيضا تناص الحالة في قصة (مسألة كرامة) مع المثل القائل من شابه أباه فما ظلم و عين ابن آدم لا يملؤها سوى التراب ومع البيت المشهور أخي جاوز الظالمون المدي(4) و أنا الغريق فما خوفي من البلل(5).

كما نجد المفارقة من مكونات السرد في قصة(الزلزال) ممثلة في فرح الأغنياء بموت الفقراء مع الشعور بالحاجة إليهم
(6) ، وكشعور (هزاز النمر) في شجرة المطر كأنه ولد من جديد في حين ماتت شخصيته القديمة(7)
ومن عناصر السرد التي أعانت صقل المسار القصصي (الحوار الداخلي) خاصة في قصة (مجهول) كالعبارات المنسوبة للجمل مثل: هذه الصحراء ستجبرني يوما على الركوع أو ”لو كنت محظوطا لخلقت سفينة حقيقية تنعم طوال الوقت بملمس المياه الرطبة
(8) .
والأسلوب يزخر بعبارات قوية مصقولة تشبه الحكم قد أجاد الكاتب تأليفها والعناية بها مثل : التراب قادر على إخفاء أفدح عيوب البشر وأكثرِها فظاعة ما دام قادرا على إخفاء البشر أنفسهم
(9) ، و كل شيء في هذه الصحراء مخلوق لكي يغدر ولا يُغدر به(10) , و أم الجراد لم تعتد المطر ، والمطر نفسه ليس مغرما بقرية من مواصفات (أم الجراد(11)

(1) التشيؤ : من معانيه إعطاء العقل والتصرف للأشياء غير العاقلة .
(2) الصراع جانب مهم من جوانب السرد الذي يشكـّـل الخطوات التي بنى عليها القاص قصته ، فهو بمثابة الخريطة للمبنى أو=
= السناريو للعمل الدرامي ، ومثله الاختزال والتكرار والتناص والزمان والمكان والصور البيانية ، حتى نظام الترقيم نفسه
لا يخلو من قصد الراوي بما يريد أن يقرره عندما يلحّ على علامة تعجب أو فواصل ، وحتى العنوان يشير إلى التقنيــــة السردية ، فالأحداث جميعها تشير إليه في خفاء وظهور .

(1) شجرة المطر ـ ص 18.
(2) تراسل الحواس : استخدام مفردات حاسة معينة للتعبير عن حاسة أخرى .
(3) نفسه ـ ص 89.
(4) نفسه ـ ص 90.
(5) نفسه ص 61.
(6) شجرة المطر ـ ص 27.
(7) نفسه ـ ص40 .ِ
(8) نفسه ـ ص32.
(9) نفسه ـ 20ص.
(10) نفسه ـ ص33.
(11) نسه ـ ص37.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق