يواصل منتدى أماسي البيضاء الثقافي نشاطاته الثقافية المنتظمة.. حيث أقيمت الأمسية السادسة والعشرون يوم الإثنين الموافق 2010.4.12 .. وحيث إن المنتدى حريص على تنوع نشاطاته.. فقد كان الموعد مع محاضرة للدكتور (رجب العقيلي) بعنوان (التذوق الجمالي والإحساس به من منظور إسلامي).. حيث افتتح الأمسية القاص (أحمد يوسف عقيلة) مقدِّماً سيرة ذاتية للمحاضر.. ثم ترك المجال لمدة ساعة ونصف لتقديم المحاضرة (التي ننشرها هنا بنصها).. ثم شارك بعض الأساتذة الحاضرين بمداخلات ساهمت في إثراء الموضوع.. وقد قام الدكتور المحاضر (رجب العقيلي) بالتعقيب على المداخلات.
هذا وستكون الأمسية القادمة يوم الإثنين الموافق 2010.4.26 عن (ماهيّة الشِّعر).. وستكون صالوناً أدبياً يشارك فيه الحاضرون بأوراق أو مداخلات شفوية.
الدكتور رجب العقيلي والقاص أحمد يوسف عقيلة
الدكتور عبدالجواد عباس
الدكتور محمد الطيب خطاب
الأستاذ رمضان بن طاهر
الشاعر عبدالله علي عمران
الدكتور جعفر حسن الطائي
الدكتور عبدالجواد عباس
الدكتور محمد الطيب خطاب
الأستاذ رمضان بن طاهر
الشاعر عبدالله علي عمران
الدكتور جعفر حسن الطائي
الشاعر عبدالباسط أبوبكر محمد
الشاعر سالم الكواش والمخرج حمدي العوكلي
السيرة الذاتية:
المحاضرة:
التذوق الجمالي والإحساس به من منظور إسلامي
يمثل الجمال إحدى القيم الثلاثة التي يسعى إليها الإنسان ، وهي (الحق والخير والجمال)، هذه القيم المبنية على نظرة متكاملة إلى طبيعة الإنسان الروحية التي لا تكتمل مقوماتها إلاً أذا كرَّس الإنسان حياته من أجل اكتساب الحقيقة في العلم ، وتوخي الخير في التعامل مع الغير ، وبحث عن الجمال في الطبيعة والفن، دون أن يكون في وسعنا اعتبار هذه القيم وسائل إلى تحقيق غايات أبعد منها لأنها جميعاً غايات في ذاتها لا تفتقر إلى تبرير ولا تحتاج إلى برهان[1] .
ولقد شاء الله أن يكون الإسلام ديناً كاملاً شاملاً قادر على أصلاح كل ما يتعلق بالحياة الدنيا، فجاء بكل القيم التي ينفع الإنسان التمسك بها نفعاً دنيوياً وأخروياً ، تُعنى بتوجيه الإنسان ليحيا في الدنيا حياة طيبة ، وليحضَ في آخرته بحياة طيبة يرضىَ الله عنها ويُثيب عليها، ومن هذه القيم التي تعتبر جديرة باهتمام الفرد وعنايته ونُشدانه – بكل تأكيد- القيم الجمالية ، التي تطبع المجتمع كله بطابع الجمال ، وتُشجع المسلم على أن يتحلى بصفات الجمال، وأن يحس به، وأن يعبر عنه في فكره وقوله وعمله وسلوكه.
فالإنسان الذي خلقه الله على صورته جميلاً ، قال تعالى :{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين آية (4)]، من شأنه – أيضاً – أن يحب الجمال من خلال الأشياء التي سخرها للإنسان في هذا الكون بما فيها من جمال وزينة وتناسق وتنوع ، والتي تُغذي بصره وبصيرته ، وتنمي وعيه وتذوقه للجمال فقد أشار أحد الباحثين إلى أن (تنمية الإحساس الجمالي لدى الإنسان المؤمن هي تنمية للملكات والطاقات التي أنعم بها عليه الله ، ..... وفي ذلك الشكر لله الذي أنعم بها وإن في استخدام هذه الملكات سبلاً للاستمتاع بها بما خلق الله في هذا الكون من آيات الزينة والجمال والشكر لله على نعمة خلقه لهذه الزينة وهذا الجمال، وهذا هو مقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، طلب الزينة والجمال[2].
فالإحساس بالجمال والميل نحوه مسألة فطرية تعيش في أعماق النفس البشرية، فالنفس الإنسانية تميل إلى الجمال ، وتشتاق إليه وتنفر من القبيح وتبتعد عنه ، وهذا الإحساس بالجمال والعناية به يؤدي بدوره إلى تهذيب المشاعر والسلوك الإنساني ويسمى بالذوق البشري.
وبالتالي أشاد الإسلام بالجمال ونوه به في مواضع متعددة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وبما إن المقام لا يتسع للتفصيل، وذكر كل الآيات والأحاديث التي تشير إلى ذلك، فقد أثرنا بعض منها ، فمن هذه الآيات التي تصور بعض المشاهد الجمالية التي تثير وتهيج مشاعر وأحاسيس الإنسان بما فيها من جمال وروعة، ودقة في الإبداع المتناهي .قال تعالى:{ أفلم ينظرا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج } [سورة ق الآية (6)]،وقال تعالى{إن زينا السمآءالدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطان مارد }[سورة الصافات الآية(6-7)]، وقال تعالى:{وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم }[سورة فصلت الآية (12)].
فالقرآن الكريم جاء شكلاً و مضموناً يحث الإنسان على النظر والتأمل في هذا الكون ،وما يشتمل عليه من آيات الزينة التي هي إبداع الله سبحانه وتعالى لتكون بهجة للناظرين، أنها جمال يدعو الإنسان إلى النظر فيه والاستمتاع به، فهذه الزينة لا تخاطب العقل، بل الوجدان إذ تنفذ من مجال الشعور عبر الإدراك الحسي إلى القلب لتثير وتشبع الإحساس بالجمال.
وينبهنا القرآن الكريم كذلك لجمال الأرض ،قال تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } [سورة الكهف الأية (7) ]، فالله سبحانه وتعالى يلفت النظر إلى مواطن الجمال وتأمل خلقه، كما يلفت نظر الإنسان إلى كل ما حوله، ليدرك قدرة الخالق ويعي عظمته ويحس بجمال الخلق، فالجمال الطبيعي هو سمة الصنعة الإلهية، فبالرغم من أن علماء الجمال والفلاسفة كانوا حريصين على التمييز بين الجمال الفني والطبيعي، وبيان أن الفنان لا ينقل الجمال الطبيعي حتى عندما ينفعل به ، بل يحوله إلى تعبير جمالي، إلا أنهم وفي نفس الوقت، يشيرون إلى أهمية الجمال الطبيعي باعتباره المصدر الرئيسي الذي يتعلم الفنان منه ،وهذا أما أكده فيلسوف الجمال ( جورج سانتيانا ) في كتابه (الإحساس بالجمال) بقوله : إن المناظر الطبيعية هي الأساس الذي نبني عليه الاعمال الفنية لان الطبيعة في ذاتها غير محدودة فهي منبع الإيحاءات والخيالات والانفعالات فتتحول هذه الخيالات والانفعالات والاهتمامات إلى فاعليات تؤدي إلى أعمال فنية تؤدي إلى أعمال فنية في مختلف صورها سواء أكانت شعراً أم رسماً أم موسيقي إلى أخر مجالات الأعمال الفنية ([3])
ومن الآيات التي تدعوا إلى التذوق والإحساس بالجمال في القرآن الكريم قوله تعالى:{ألم ترأن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدوآب والأنعام مختلف ألوانه كذالك إنما يخشى الله من عباده العلماؤا إن الله عزيز غفور }[سورة فاطر الأية (27_28) ] .
فهذه الآية تخلق في وجدان الإنسان الإحساس بالتناسق الذي يبدوا في توزيع الألوان في الطبيعة بجمالها وتقدم للخيال أروع وأبهى آيات الجمال، وتقدم للعين أبدع التكوينات الجمالية في تشكيلها الهندسي وصبغتها اللونية، بحيث أن الفكر في أدق تصوراته لا يملك إلا أن يسلم بأن وراء هذا الجمال قدرة ومعجزة هي قدرة (الله سبحانه وتعالى )، فكل شيء يتسم بالجمال في تناسق أجزائه، وألوانه المتنوعة والمتعددة يقول سبحانه وتعالى:{الذى أحسن كل شئ خلقه} [سورة السجدة الأية(7)].
فالخلق الحسن يشير الى التآزر الحركي الحيوي في باطن كل شيء يتسم بالإيقاع والاتزان في أدائه لوظائفه الحيوية، فالأشياء الجميلة تريح النفس الإنسانية، وتجعل النظر إليها محبباً، وتبعث على التخيل والاستمتاع الجمالي، وتغذي الوجدان والرغبات المكبوتة داخل النفس، فهي تعمل على تجديد طاقات المرء وتنويع مظاهرها واتزان نواحيها،"... فإنه لأمر منطقي أن يكون أحياء القرآن الكريم للإحساس بالجمال في وجدان الإنسان وفكره وخياله شمولياً متكاملاً في خصائصه "[4]
فكل المشاهد القرآنية التي تصور المشاهد الطبيعية، تتسم بالتكوين الفني الجمالي، فهى بذلك تؤكد حقيقة، وهي أن الفطرة الإنسانية، فطره ذواقة للجمال، لأن الطبيعة تزخر بصور لا حصر لها من الجمال ، تلك الصور تعد مصدراً يرجع إليه الفنان ويتعلم منه على الدوام، وهذا الجمال ليس أمراً ثانوياً، بل هو إبداع إلهي مقصود لذاته، جزء لا يتجزءا من بنية العالم الطبيعي، جمال مبدع ليس له وظيفة تؤديها سوى أن يكون مصدراً للمتعة وأدراك قدرة الخالق، العلة المسئولة عن هذا الجمال [5]
فالنظرٍ الذى تدعو إليه هذه الآيات هو سبيل من سبل الاستدلال على وجود(الله)
وعلى كمال قدرته وبديع صنعته، وما تعطيل النظر في آيات الجمال هذه إلاُ تعطيل للدليل على وجود الصانع المبدع لهذه الآيات .
ويدعونا في آيات أخرى بان نتخذ زينتنا عند الخروج إلى المسجد حتى نكون فى أبهي صورة وأجمل حال، قال تعالى:{ يابنى ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين } [سورة الأعراف الآية(31)]، مستنكر من يحرم زينة الله قال تعالى:{ قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [سورة الأعراف الآية (32) ]،فالجمال والزينة مصاحبة للعبادة السليمة كما أنها شرط من شروط صحتها [6].
والجمال كما يكون في خلق الكون وفي خلق الإنسان يكون أيضاً في الأنعام قال تعالى:{ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون }[سورة النحل الأية (5-6)،فهذه الآية بعد الإشارة إلى فوائد الأنعام العملية ومنافعها الجسدية ارتفعت بنا إلى عالم أخر يحسه القلب ويشعر به الوجدان أنه عالم الجمال الذي يبعث الراحة والسعادة بهذه الدواب عند غدوها و رواحها، وهذا تأكيد على إن الإحساس بالجمال سلوك إنساني عتيد وعريق يستحيل علينا تجاهله، أو غض الطرف عنه لأنه له علاقة وثيقة بفهم الإنسان، ومعرفة حقيقته .
وكذلك أرتبط الجمال بالأخلاق والسلوك في كثير من الآيات التي وصفت لنا الجميل بكلمات مثل الصبر والتسريح والصفح والهجر،قال تعالى:{وجآءوعلى قميصه بدم كذب قال بل سوَلت لكم أنفسكم أمرا فصبرجميل والله المستعان على ماتصفون } [سورة يوسف الآية(18)]،وقال تعالى:{ فاصبرصبراجميلا}[سورة المعارج الآية (5)].
نلاحظ أيضاً الجمال صفه للتسريح ( الطلاق )، قال تعالى:{ياأيًها النبى قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا}[سورة الأحزاب الآية (28)].
كذلك نجده – أي الجمال – وصف للصفح المصحوب بالحلم وعدم المن قال تعالى:{وماخلقنا السماوات والأرض وما بينهمآ إلابالحق وإن الساعة لأتية فاصفح الصفح الجميل }[سورة الحجر الآية (85)]،ووصف الهجر لمن يستحق الهجرقال تعالى:{واصبرعلى مايقولون واهجرهم هجرا جميلا} [سورة المزمل الآية (10).
فالإنسان إذا ألتزم بما أمر الله به من الصبر الجميل في كل الظروف، وسرح عند الطلاق سراحاً جميلاً، وصفح عند الإساءة إليه صفحاً جميلاً، وهجر عند توفر أساب الهجر هجراً جميلاً، فإنه عند ئذ يأخذ بناصية الجمال في سلوكه وأخلاقه ويكون بحق لبنة صالحة في بناء المجتمع الإنساني الراشد الذي يتقيد في تعامله بالقيم الإسلامية [7] .
وللجمال معاني أكثر من أن تحصى في هذا المقام ما دام الجمال هو الحسن وهو الذي يجلب البهجة للنفوس والعقول، ويولد الرغبة في حب الخير، فنجده تارة يعني الحسن، والنظافة والطهارة ،وإثار الخير ،والصلاح في القول والعمل، وتقوى الله عز وجل، والإصلاح بين الناس والعدل، والوفاء والإحسان بكل معانيه،قال تعالى:{ وابتغ فيمآء اتاك الله الدار الأخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كمآ أحسن الله إليك ولاتبغ الفساد فى الأرض إن الله لايحب المفسدين } [سورة القصص الآية (77)] .
فمن خلال هذه النصوص المحملة برؤية جمالية للحياة – والتي قليل من كثير – لا نستطيع أن نتكلم عن رسالة تزعم أنها تؤسس مجتمعاً وتغفل كل ما هو يخاطب الحس السليم والذوق الرفيع، سواءأكان جمال حسي، ويتمثل في المنظر، والوجه، واللون، والصوت الجميل.....الخ، أم جمال معنوي ويتمثل في الفكرة والإحساس والسلوك الجميل ....الخ ،حقاً لقد كان في أيآت الله الكريمة أروع بيان وأحسن أسلوب، وأجمل تصوير لحضّ الإنسان على النظر في جنبات الكون المبدعة في الأحكام والنظام الدقيق، الذي يبعث مشاعر وأحاسيس الإنسان ووعيه لجمال ذاته والطبيعة في آن واحد، وهذا ما يتعلق بالمشهد الكوني، فبالإضافة إلى ذلك جمال المشهد المقروء من الآيات القرآنية والتي يتجلى فيها جمال الأسلوب وبلاغته والإعجاز البياني والتي تكاد تجسد ما تحكي عنه .
كذلك تتناول السنة النبوية في ثناياها كل ما يكون الناس في حاجة إليه، مادية ومعنوية، والجمال – كما أشرنا – من حاجات الإنسان الملازمة له دائماً، سواء الجمال المعنوي المتمثل في عقله وفكره وما يعتقده، أو الجمال المادي في مسكنه وملبسه ومأكله ومشربه، وزوجه وولده، فالسنة النبوية حافلة بكل معاني الجمال المتمثلة في الحسن الخٌلقي، والخلقي ، وحسنه العبادة وحسن التوكل على الله، والتعامل معه، ومع النفس ومع الناس .
فالرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء رحمة للعالمين، كان النموذج الأرقى للإنسان الذي يستشعر كل آيات الجمال في خلق الله، ويلفت النظر بهذا السلوك الجمالي، ليغدو سنة متبعة في مذاهب الإسلام وحضارة المسلمين،قال تعالى:{يآ أيها النبى إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا(45)وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا }[سورة الأحزاب الآية 45-46)].
تختزل دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الجمال في قوله ( إن الله جميل يحب الجمال ) الترمذي .
هذا الحديث مع غيره من الأحاديث المماثلة يشكل نقطة الانطلاق لكل ما جرى على لسان المفكرين المسلمين وما تطورمن أراء تناولت الجمال والجميل،فإذا كانا لله جميل يحب الجمال ،فمن واجب المسلم إذا أن يحب الجمال بدوره وهذا يستدعى بالضرورة معرفة الجمال وتقرير ماهو جميل ،الأمر الذى يهيب به أن يبحث عن الخصائص التى تجعل من شئ ما ممتعا بصفة الجمال .
هذا هو منهج الإسلام إزاء آيات الجمال والحسن والبهاء والزينة والزخرف التي أبدعها الله وأودعها في الوجود طالب الإنسان النظر فيها ، لأن الله جميل يحب الجمال- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- بكل أنواعه في الشكل والصورة والمضمون والجوهر ، شاكراً الله على إبداعها وعلى إبداع الحواس المستقبلة لتأثيراتها .
والإسلام إذا كان يدعو إلى الجمال فإنه من ناحية أخرى يرفض القبح بجميع أشكاله ،والذى هو ضد الجمال والحسن ، ينشأ عنه شعور بألم أو نفور ، أي ما يتصف بصفة يكرها الشرع ويرفضها العرف ، قال تعالى في وصف الكفار بالرجاسة والنجاسة في الدنيــا والآخرة:{وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} [سورة القصص الآية (42)] .
فالجمال إذا ساد في كل شئ في أقوالنا وأفعالنا ، فإن النتيجة ستكون حياة جميلة ، والحياة الجميلة تدفع إلى كل ما هو جميل ، والمجتمع الذي يسود فيه الجمال يسود فيه الذوق الجميل ، والفن الجميل ، والفعل الجميل، والأدب الجميل ، والسلوك الجميل .
ولقد اعتمد فلاسفة المسلمين على ذلك المنهج الذي أساسه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في بعثه للإحساس بالجمال لتحقيق التوازن في النفس البشرية، والرقى بها، وتهذيب أخلاقها ، فجاء تفسيرهم للجمال بما يتفق مع ذلك .
إذ يرى الفارابي أن إدراك جمال الله لا يتأتي لنا نحن البشر إلا بالقياس على ما ندرك من جمالات الدنيا ،عن طريق الإحساس ،أو التخيل ،أو العلم العقلي، بل ويذهب إلى أن الاستمتاع بالجمال شئ مشترك بين الإنسان والله لكن النسبة بين شعور الإنسان بالجمال وإدراك الله للجمال كنسبة المحدود إلى اللامحدود ، فالموجود الأول (الله) هو الجمال المحض والجمالات على تعدد مراتبها تفيض منه .
ونجده في كتابه تحصيل السعادة يربط بين الجمال والأخلاق فيقول: (إن الأشياء إذا اعتدناها اكتسبنا الخلق الجميل هي الأفعال التي شانها أن تكون في أصحاب الأخلاق الجميلة، والتي تكسبنا الخلق القبيح هي الأفعال التي تكون من أصحاب الأخلاق القبيحة ... والفعل الجميل ممكن للإنسان ، أما قبل حصول الخلق الجميل فبالقوة التي فطر عليها ، وأما بعد الحصول بالفعل )[8]
ويقسم الفضيلة التي هي وسيلة لتحصيل السعادة إلى أربعة أجناس وهي (الفضائل النظرية والفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والفضائل العملية ، أما الأولى فتنصب على المبادئ الأولية للمعرفة والعلم بالأشياء علماً نظرياً من حيث هي موجودات لا من حيث منفعتها العملية ، والثانية العلوم السياسية والاقتصاد ، والثالثة هي الفضائل الأخلاقية وهي التي تبحث في السلوك الأخلاقي للإنسان ، وأخيراً الفضائل العملية التي يراد بها اكتساب الفنون العملية المعروفة)[9]" ،
ونلتمس عند أبو حامد الغزالي موقفاً آخر في تفسير الجمال وربطه بالحب في كتابه( أحياء علوم الدين ) إذ يقول (واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال ، والله تعالى جميل يحب الجمال ، ولكن الجمال إن كان يتناسب الخلقة ، وصفاء اللون ، أدرك بحاسة البصر وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من صفات الباطنة ، أدرك بحاسة القلب ، ولفظ الجمال قد يستعار أيضاً فيقال : إن فلاناً حسن وجميل ولا تراد به صورته وإنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة حتى يحب الرجل الصفات الباطنة استحسانا لها كما تحب الصورة الظاهرة)[10] .
فالغزالي يقسم الجمال إلى جمال الصورة الظاهرة والتي تدرك بالحواس الظاهرة وهو يتعلق بالتناسق والكمال سوء أكانت بصرية أم سمعية، والقسم الثاني جمال الصورة الباطنية وهو الجمال المعنوي الذي يتصل بالصفات الباطنية وأداة إدراكه القلب الذي هو قوة إدراك الجمال في المعنويات، بينما العقل قوة إدراك جمال المعقولات، كذلك يربط جمال الصورة بجمال الاخلاق والخير والعدل والحق وسائر الفضائل الإنسانية .
ويستطرد الغزالي ويؤكد بأن (أن لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسنات الله وأثر من أثار كرمه .. سواء أدرك هذا الجمال بالعقول أو بالحواس، وجماله تعالى لا يتصور له ثانِ لا في الإمكان ولا في الوجود)[11]، فالغزالي ربط أنواع الجمال بالجمال الإلهي لأنها أثر من أثاره، والإنسان بتقربه إلى الله يكتشف أن جمال العالم المادي ما هو إلا انعكاس للجمال الإلهي .
وجملة القول إن الجمال صفه ما ينبغي أن تفارق المسلم في جميع أحواله، وهذه هي التربية الجمالية الحقة الأخذة بالمجتمع كله إلى أعلى درجات التقدم والرقي وممارسة الحياة الإنسانية بإحسان.
وأخيراً يمكن ان نخلص من هذا إلى ما يلي :
- ان قيمة الجمال قيمة إسلامية دعت إليها نصوص الكتاب والسنة
- ان قيمة الجمال غاية في ذاتها فهي صفة تتميز بالثبات والاستقرار مهما تعدد المكان أو تغير الزمان
- انها كسائر القيم الإسلامية لا يصلح المجتمع إلا أن تمسك بها وطبقها في كل ظروفه ومجالاته
- ان قيمة الجمال في الإسلام تشير إلى مفردات ومعاني متعددة تشمل الفكر والقول والعمل والسلوك
- أنعكس النهج الإسلامي في نظرته للجمال والإحساس به على أراء رجال الفكر الإسلامي اذ اعتبروا الجمال قيمة أساسية فهي الطاقة المحركة للنفس الإنسانية من خلال فعل الحب لله من حيث كونه موضوع الجمال
-ان التربية الجمالية ضرورة من ضرورات الحياة تمد المجتمع بزاد وفير يعمق فيهم الإحساس والتذوق الجمالي والقيم السامية والخبرة الجمالية ويولد لديهم الرغبة في التعبير عن هذا الإحساس بصور جمالية ناجحة تعطي للحياة بهجتها ورونقها.
هوامش:
[1] زكريا ابراهيم ، مبادئ الفلسفة الأخلاقية ، ص 59 . جيروم ستولنيتر . النقد الفني . ص 518
[2] محمد عمارة الإسلام والفنون الجمالية ، ص20 – 22
[3] جورج سانتيانا : الإحساس بالجمال ، ص 192 - 193
[4] - محمد عبدالواحد الحجازي، الإحساس بالجمال في ضوء القرآن الكريم ، ص 18 .
- سعيد توفيق ، مدخل إلى موضوع علم الجمال ، ص 98[5]
[6] - فرغلي جاد أحمد، مقال (التربية الجمالية [رؤية إسلامية])، مجلة رسالة الخليج العربي، العدد41 ص89.
[7] - على عبدالحليم محمود ، التربية الجمالية الإسلامية ، ص 162
[8] - الفارابي – تحصيل السعادة ، ص 8
[9] - المرجع السابق ، ص 22 .
[10] ـ الغزالي، إحياء علوم الدين, ج4، ص293.
[11] ـ نفس المرجع السابق. ص300.
السيرة الذاتية:
ــ د. رجب علي يونس العقيلي.
ــ مواليد 1968 البيضاء.
ــ ماجستير من جامعة قاريوني سنة 2000 موضوع الرسالة (التجريدية في الفن العربي الإسلامي).
ــ دكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة 2008 بتقدير مرتبة الشرف الأولى.. موضوع الرسالة (إشكالية المعرفة بين الفارابي وابن رشد واتصالها بمبحث الوجود).
ــ شارك في مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية في القاهرة سنة 2004.
ــ تولى رئاسة قسم الآثار بكلية الآداب بجامعة عمر المختار.
المحاضرة:
التذوق الجمالي والإحساس به من منظور إسلامي
يمثل الجمال إحدى القيم الثلاثة التي يسعى إليها الإنسان ، وهي (الحق والخير والجمال)، هذه القيم المبنية على نظرة متكاملة إلى طبيعة الإنسان الروحية التي لا تكتمل مقوماتها إلاً أذا كرَّس الإنسان حياته من أجل اكتساب الحقيقة في العلم ، وتوخي الخير في التعامل مع الغير ، وبحث عن الجمال في الطبيعة والفن، دون أن يكون في وسعنا اعتبار هذه القيم وسائل إلى تحقيق غايات أبعد منها لأنها جميعاً غايات في ذاتها لا تفتقر إلى تبرير ولا تحتاج إلى برهان[1] .
ولقد شاء الله أن يكون الإسلام ديناً كاملاً شاملاً قادر على أصلاح كل ما يتعلق بالحياة الدنيا، فجاء بكل القيم التي ينفع الإنسان التمسك بها نفعاً دنيوياً وأخروياً ، تُعنى بتوجيه الإنسان ليحيا في الدنيا حياة طيبة ، وليحضَ في آخرته بحياة طيبة يرضىَ الله عنها ويُثيب عليها، ومن هذه القيم التي تعتبر جديرة باهتمام الفرد وعنايته ونُشدانه – بكل تأكيد- القيم الجمالية ، التي تطبع المجتمع كله بطابع الجمال ، وتُشجع المسلم على أن يتحلى بصفات الجمال، وأن يحس به، وأن يعبر عنه في فكره وقوله وعمله وسلوكه.
فالإنسان الذي خلقه الله على صورته جميلاً ، قال تعالى :{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين آية (4)]، من شأنه – أيضاً – أن يحب الجمال من خلال الأشياء التي سخرها للإنسان في هذا الكون بما فيها من جمال وزينة وتناسق وتنوع ، والتي تُغذي بصره وبصيرته ، وتنمي وعيه وتذوقه للجمال فقد أشار أحد الباحثين إلى أن (تنمية الإحساس الجمالي لدى الإنسان المؤمن هي تنمية للملكات والطاقات التي أنعم بها عليه الله ، ..... وفي ذلك الشكر لله الذي أنعم بها وإن في استخدام هذه الملكات سبلاً للاستمتاع بها بما خلق الله في هذا الكون من آيات الزينة والجمال والشكر لله على نعمة خلقه لهذه الزينة وهذا الجمال، وهذا هو مقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، طلب الزينة والجمال[2].
فالإحساس بالجمال والميل نحوه مسألة فطرية تعيش في أعماق النفس البشرية، فالنفس الإنسانية تميل إلى الجمال ، وتشتاق إليه وتنفر من القبيح وتبتعد عنه ، وهذا الإحساس بالجمال والعناية به يؤدي بدوره إلى تهذيب المشاعر والسلوك الإنساني ويسمى بالذوق البشري.
وبالتالي أشاد الإسلام بالجمال ونوه به في مواضع متعددة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وبما إن المقام لا يتسع للتفصيل، وذكر كل الآيات والأحاديث التي تشير إلى ذلك، فقد أثرنا بعض منها ، فمن هذه الآيات التي تصور بعض المشاهد الجمالية التي تثير وتهيج مشاعر وأحاسيس الإنسان بما فيها من جمال وروعة، ودقة في الإبداع المتناهي .قال تعالى:{ أفلم ينظرا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج } [سورة ق الآية (6)]،وقال تعالى{إن زينا السمآءالدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطان مارد }[سورة الصافات الآية(6-7)]، وقال تعالى:{وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم }[سورة فصلت الآية (12)].
فالقرآن الكريم جاء شكلاً و مضموناً يحث الإنسان على النظر والتأمل في هذا الكون ،وما يشتمل عليه من آيات الزينة التي هي إبداع الله سبحانه وتعالى لتكون بهجة للناظرين، أنها جمال يدعو الإنسان إلى النظر فيه والاستمتاع به، فهذه الزينة لا تخاطب العقل، بل الوجدان إذ تنفذ من مجال الشعور عبر الإدراك الحسي إلى القلب لتثير وتشبع الإحساس بالجمال.
وينبهنا القرآن الكريم كذلك لجمال الأرض ،قال تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } [سورة الكهف الأية (7) ]، فالله سبحانه وتعالى يلفت النظر إلى مواطن الجمال وتأمل خلقه، كما يلفت نظر الإنسان إلى كل ما حوله، ليدرك قدرة الخالق ويعي عظمته ويحس بجمال الخلق، فالجمال الطبيعي هو سمة الصنعة الإلهية، فبالرغم من أن علماء الجمال والفلاسفة كانوا حريصين على التمييز بين الجمال الفني والطبيعي، وبيان أن الفنان لا ينقل الجمال الطبيعي حتى عندما ينفعل به ، بل يحوله إلى تعبير جمالي، إلا أنهم وفي نفس الوقت، يشيرون إلى أهمية الجمال الطبيعي باعتباره المصدر الرئيسي الذي يتعلم الفنان منه ،وهذا أما أكده فيلسوف الجمال ( جورج سانتيانا ) في كتابه (الإحساس بالجمال) بقوله : إن المناظر الطبيعية هي الأساس الذي نبني عليه الاعمال الفنية لان الطبيعة في ذاتها غير محدودة فهي منبع الإيحاءات والخيالات والانفعالات فتتحول هذه الخيالات والانفعالات والاهتمامات إلى فاعليات تؤدي إلى أعمال فنية تؤدي إلى أعمال فنية في مختلف صورها سواء أكانت شعراً أم رسماً أم موسيقي إلى أخر مجالات الأعمال الفنية ([3])
ومن الآيات التي تدعوا إلى التذوق والإحساس بالجمال في القرآن الكريم قوله تعالى:{ألم ترأن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدوآب والأنعام مختلف ألوانه كذالك إنما يخشى الله من عباده العلماؤا إن الله عزيز غفور }[سورة فاطر الأية (27_28) ] .
فهذه الآية تخلق في وجدان الإنسان الإحساس بالتناسق الذي يبدوا في توزيع الألوان في الطبيعة بجمالها وتقدم للخيال أروع وأبهى آيات الجمال، وتقدم للعين أبدع التكوينات الجمالية في تشكيلها الهندسي وصبغتها اللونية، بحيث أن الفكر في أدق تصوراته لا يملك إلا أن يسلم بأن وراء هذا الجمال قدرة ومعجزة هي قدرة (الله سبحانه وتعالى )، فكل شيء يتسم بالجمال في تناسق أجزائه، وألوانه المتنوعة والمتعددة يقول سبحانه وتعالى:{الذى أحسن كل شئ خلقه} [سورة السجدة الأية(7)].
فالخلق الحسن يشير الى التآزر الحركي الحيوي في باطن كل شيء يتسم بالإيقاع والاتزان في أدائه لوظائفه الحيوية، فالأشياء الجميلة تريح النفس الإنسانية، وتجعل النظر إليها محبباً، وتبعث على التخيل والاستمتاع الجمالي، وتغذي الوجدان والرغبات المكبوتة داخل النفس، فهي تعمل على تجديد طاقات المرء وتنويع مظاهرها واتزان نواحيها،"... فإنه لأمر منطقي أن يكون أحياء القرآن الكريم للإحساس بالجمال في وجدان الإنسان وفكره وخياله شمولياً متكاملاً في خصائصه "[4]
فكل المشاهد القرآنية التي تصور المشاهد الطبيعية، تتسم بالتكوين الفني الجمالي، فهى بذلك تؤكد حقيقة، وهي أن الفطرة الإنسانية، فطره ذواقة للجمال، لأن الطبيعة تزخر بصور لا حصر لها من الجمال ، تلك الصور تعد مصدراً يرجع إليه الفنان ويتعلم منه على الدوام، وهذا الجمال ليس أمراً ثانوياً، بل هو إبداع إلهي مقصود لذاته، جزء لا يتجزءا من بنية العالم الطبيعي، جمال مبدع ليس له وظيفة تؤديها سوى أن يكون مصدراً للمتعة وأدراك قدرة الخالق، العلة المسئولة عن هذا الجمال [5]
فالنظرٍ الذى تدعو إليه هذه الآيات هو سبيل من سبل الاستدلال على وجود(الله)
وعلى كمال قدرته وبديع صنعته، وما تعطيل النظر في آيات الجمال هذه إلاُ تعطيل للدليل على وجود الصانع المبدع لهذه الآيات .
ويدعونا في آيات أخرى بان نتخذ زينتنا عند الخروج إلى المسجد حتى نكون فى أبهي صورة وأجمل حال، قال تعالى:{ يابنى ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين } [سورة الأعراف الآية(31)]، مستنكر من يحرم زينة الله قال تعالى:{ قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [سورة الأعراف الآية (32) ]،فالجمال والزينة مصاحبة للعبادة السليمة كما أنها شرط من شروط صحتها [6].
والجمال كما يكون في خلق الكون وفي خلق الإنسان يكون أيضاً في الأنعام قال تعالى:{ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون }[سورة النحل الأية (5-6)،فهذه الآية بعد الإشارة إلى فوائد الأنعام العملية ومنافعها الجسدية ارتفعت بنا إلى عالم أخر يحسه القلب ويشعر به الوجدان أنه عالم الجمال الذي يبعث الراحة والسعادة بهذه الدواب عند غدوها و رواحها، وهذا تأكيد على إن الإحساس بالجمال سلوك إنساني عتيد وعريق يستحيل علينا تجاهله، أو غض الطرف عنه لأنه له علاقة وثيقة بفهم الإنسان، ومعرفة حقيقته .
وكذلك أرتبط الجمال بالأخلاق والسلوك في كثير من الآيات التي وصفت لنا الجميل بكلمات مثل الصبر والتسريح والصفح والهجر،قال تعالى:{وجآءوعلى قميصه بدم كذب قال بل سوَلت لكم أنفسكم أمرا فصبرجميل والله المستعان على ماتصفون } [سورة يوسف الآية(18)]،وقال تعالى:{ فاصبرصبراجميلا}[سورة المعارج الآية (5)].
نلاحظ أيضاً الجمال صفه للتسريح ( الطلاق )، قال تعالى:{ياأيًها النبى قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا}[سورة الأحزاب الآية (28)].
كذلك نجده – أي الجمال – وصف للصفح المصحوب بالحلم وعدم المن قال تعالى:{وماخلقنا السماوات والأرض وما بينهمآ إلابالحق وإن الساعة لأتية فاصفح الصفح الجميل }[سورة الحجر الآية (85)]،ووصف الهجر لمن يستحق الهجرقال تعالى:{واصبرعلى مايقولون واهجرهم هجرا جميلا} [سورة المزمل الآية (10).
فالإنسان إذا ألتزم بما أمر الله به من الصبر الجميل في كل الظروف، وسرح عند الطلاق سراحاً جميلاً، وصفح عند الإساءة إليه صفحاً جميلاً، وهجر عند توفر أساب الهجر هجراً جميلاً، فإنه عند ئذ يأخذ بناصية الجمال في سلوكه وأخلاقه ويكون بحق لبنة صالحة في بناء المجتمع الإنساني الراشد الذي يتقيد في تعامله بالقيم الإسلامية [7] .
وللجمال معاني أكثر من أن تحصى في هذا المقام ما دام الجمال هو الحسن وهو الذي يجلب البهجة للنفوس والعقول، ويولد الرغبة في حب الخير، فنجده تارة يعني الحسن، والنظافة والطهارة ،وإثار الخير ،والصلاح في القول والعمل، وتقوى الله عز وجل، والإصلاح بين الناس والعدل، والوفاء والإحسان بكل معانيه،قال تعالى:{ وابتغ فيمآء اتاك الله الدار الأخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كمآ أحسن الله إليك ولاتبغ الفساد فى الأرض إن الله لايحب المفسدين } [سورة القصص الآية (77)] .
فمن خلال هذه النصوص المحملة برؤية جمالية للحياة – والتي قليل من كثير – لا نستطيع أن نتكلم عن رسالة تزعم أنها تؤسس مجتمعاً وتغفل كل ما هو يخاطب الحس السليم والذوق الرفيع، سواءأكان جمال حسي، ويتمثل في المنظر، والوجه، واللون، والصوت الجميل.....الخ، أم جمال معنوي ويتمثل في الفكرة والإحساس والسلوك الجميل ....الخ ،حقاً لقد كان في أيآت الله الكريمة أروع بيان وأحسن أسلوب، وأجمل تصوير لحضّ الإنسان على النظر في جنبات الكون المبدعة في الأحكام والنظام الدقيق، الذي يبعث مشاعر وأحاسيس الإنسان ووعيه لجمال ذاته والطبيعة في آن واحد، وهذا ما يتعلق بالمشهد الكوني، فبالإضافة إلى ذلك جمال المشهد المقروء من الآيات القرآنية والتي يتجلى فيها جمال الأسلوب وبلاغته والإعجاز البياني والتي تكاد تجسد ما تحكي عنه .
كذلك تتناول السنة النبوية في ثناياها كل ما يكون الناس في حاجة إليه، مادية ومعنوية، والجمال – كما أشرنا – من حاجات الإنسان الملازمة له دائماً، سواء الجمال المعنوي المتمثل في عقله وفكره وما يعتقده، أو الجمال المادي في مسكنه وملبسه ومأكله ومشربه، وزوجه وولده، فالسنة النبوية حافلة بكل معاني الجمال المتمثلة في الحسن الخٌلقي، والخلقي ، وحسنه العبادة وحسن التوكل على الله، والتعامل معه، ومع النفس ومع الناس .
فالرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء رحمة للعالمين، كان النموذج الأرقى للإنسان الذي يستشعر كل آيات الجمال في خلق الله، ويلفت النظر بهذا السلوك الجمالي، ليغدو سنة متبعة في مذاهب الإسلام وحضارة المسلمين،قال تعالى:{يآ أيها النبى إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا(45)وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا }[سورة الأحزاب الآية 45-46)].
تختزل دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الجمال في قوله ( إن الله جميل يحب الجمال ) الترمذي .
هذا الحديث مع غيره من الأحاديث المماثلة يشكل نقطة الانطلاق لكل ما جرى على لسان المفكرين المسلمين وما تطورمن أراء تناولت الجمال والجميل،فإذا كانا لله جميل يحب الجمال ،فمن واجب المسلم إذا أن يحب الجمال بدوره وهذا يستدعى بالضرورة معرفة الجمال وتقرير ماهو جميل ،الأمر الذى يهيب به أن يبحث عن الخصائص التى تجعل من شئ ما ممتعا بصفة الجمال .
هذا هو منهج الإسلام إزاء آيات الجمال والحسن والبهاء والزينة والزخرف التي أبدعها الله وأودعها في الوجود طالب الإنسان النظر فيها ، لأن الله جميل يحب الجمال- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- بكل أنواعه في الشكل والصورة والمضمون والجوهر ، شاكراً الله على إبداعها وعلى إبداع الحواس المستقبلة لتأثيراتها .
والإسلام إذا كان يدعو إلى الجمال فإنه من ناحية أخرى يرفض القبح بجميع أشكاله ،والذى هو ضد الجمال والحسن ، ينشأ عنه شعور بألم أو نفور ، أي ما يتصف بصفة يكرها الشرع ويرفضها العرف ، قال تعالى في وصف الكفار بالرجاسة والنجاسة في الدنيــا والآخرة:{وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} [سورة القصص الآية (42)] .
فالجمال إذا ساد في كل شئ في أقوالنا وأفعالنا ، فإن النتيجة ستكون حياة جميلة ، والحياة الجميلة تدفع إلى كل ما هو جميل ، والمجتمع الذي يسود فيه الجمال يسود فيه الذوق الجميل ، والفن الجميل ، والفعل الجميل، والأدب الجميل ، والسلوك الجميل .
ولقد اعتمد فلاسفة المسلمين على ذلك المنهج الذي أساسه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في بعثه للإحساس بالجمال لتحقيق التوازن في النفس البشرية، والرقى بها، وتهذيب أخلاقها ، فجاء تفسيرهم للجمال بما يتفق مع ذلك .
إذ يرى الفارابي أن إدراك جمال الله لا يتأتي لنا نحن البشر إلا بالقياس على ما ندرك من جمالات الدنيا ،عن طريق الإحساس ،أو التخيل ،أو العلم العقلي، بل ويذهب إلى أن الاستمتاع بالجمال شئ مشترك بين الإنسان والله لكن النسبة بين شعور الإنسان بالجمال وإدراك الله للجمال كنسبة المحدود إلى اللامحدود ، فالموجود الأول (الله) هو الجمال المحض والجمالات على تعدد مراتبها تفيض منه .
ونجده في كتابه تحصيل السعادة يربط بين الجمال والأخلاق فيقول: (إن الأشياء إذا اعتدناها اكتسبنا الخلق الجميل هي الأفعال التي شانها أن تكون في أصحاب الأخلاق الجميلة، والتي تكسبنا الخلق القبيح هي الأفعال التي تكون من أصحاب الأخلاق القبيحة ... والفعل الجميل ممكن للإنسان ، أما قبل حصول الخلق الجميل فبالقوة التي فطر عليها ، وأما بعد الحصول بالفعل )[8]
ويقسم الفضيلة التي هي وسيلة لتحصيل السعادة إلى أربعة أجناس وهي (الفضائل النظرية والفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والفضائل العملية ، أما الأولى فتنصب على المبادئ الأولية للمعرفة والعلم بالأشياء علماً نظرياً من حيث هي موجودات لا من حيث منفعتها العملية ، والثانية العلوم السياسية والاقتصاد ، والثالثة هي الفضائل الأخلاقية وهي التي تبحث في السلوك الأخلاقي للإنسان ، وأخيراً الفضائل العملية التي يراد بها اكتساب الفنون العملية المعروفة)[9]" ،
ونلتمس عند أبو حامد الغزالي موقفاً آخر في تفسير الجمال وربطه بالحب في كتابه( أحياء علوم الدين ) إذ يقول (واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال ، والله تعالى جميل يحب الجمال ، ولكن الجمال إن كان يتناسب الخلقة ، وصفاء اللون ، أدرك بحاسة البصر وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من صفات الباطنة ، أدرك بحاسة القلب ، ولفظ الجمال قد يستعار أيضاً فيقال : إن فلاناً حسن وجميل ولا تراد به صورته وإنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة حتى يحب الرجل الصفات الباطنة استحسانا لها كما تحب الصورة الظاهرة)[10] .
فالغزالي يقسم الجمال إلى جمال الصورة الظاهرة والتي تدرك بالحواس الظاهرة وهو يتعلق بالتناسق والكمال سوء أكانت بصرية أم سمعية، والقسم الثاني جمال الصورة الباطنية وهو الجمال المعنوي الذي يتصل بالصفات الباطنية وأداة إدراكه القلب الذي هو قوة إدراك الجمال في المعنويات، بينما العقل قوة إدراك جمال المعقولات، كذلك يربط جمال الصورة بجمال الاخلاق والخير والعدل والحق وسائر الفضائل الإنسانية .
ويستطرد الغزالي ويؤكد بأن (أن لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسنات الله وأثر من أثار كرمه .. سواء أدرك هذا الجمال بالعقول أو بالحواس، وجماله تعالى لا يتصور له ثانِ لا في الإمكان ولا في الوجود)[11]، فالغزالي ربط أنواع الجمال بالجمال الإلهي لأنها أثر من أثاره، والإنسان بتقربه إلى الله يكتشف أن جمال العالم المادي ما هو إلا انعكاس للجمال الإلهي .
وجملة القول إن الجمال صفه ما ينبغي أن تفارق المسلم في جميع أحواله، وهذه هي التربية الجمالية الحقة الأخذة بالمجتمع كله إلى أعلى درجات التقدم والرقي وممارسة الحياة الإنسانية بإحسان.
وأخيراً يمكن ان نخلص من هذا إلى ما يلي :
- ان قيمة الجمال قيمة إسلامية دعت إليها نصوص الكتاب والسنة
- ان قيمة الجمال غاية في ذاتها فهي صفة تتميز بالثبات والاستقرار مهما تعدد المكان أو تغير الزمان
- انها كسائر القيم الإسلامية لا يصلح المجتمع إلا أن تمسك بها وطبقها في كل ظروفه ومجالاته
- ان قيمة الجمال في الإسلام تشير إلى مفردات ومعاني متعددة تشمل الفكر والقول والعمل والسلوك
- أنعكس النهج الإسلامي في نظرته للجمال والإحساس به على أراء رجال الفكر الإسلامي اذ اعتبروا الجمال قيمة أساسية فهي الطاقة المحركة للنفس الإنسانية من خلال فعل الحب لله من حيث كونه موضوع الجمال
-ان التربية الجمالية ضرورة من ضرورات الحياة تمد المجتمع بزاد وفير يعمق فيهم الإحساس والتذوق الجمالي والقيم السامية والخبرة الجمالية ويولد لديهم الرغبة في التعبير عن هذا الإحساس بصور جمالية ناجحة تعطي للحياة بهجتها ورونقها.
هوامش:
[1] زكريا ابراهيم ، مبادئ الفلسفة الأخلاقية ، ص 59 . جيروم ستولنيتر . النقد الفني . ص 518
[2] محمد عمارة الإسلام والفنون الجمالية ، ص20 – 22
[3] جورج سانتيانا : الإحساس بالجمال ، ص 192 - 193
[4] - محمد عبدالواحد الحجازي، الإحساس بالجمال في ضوء القرآن الكريم ، ص 18 .
- سعيد توفيق ، مدخل إلى موضوع علم الجمال ، ص 98[5]
[6] - فرغلي جاد أحمد، مقال (التربية الجمالية [رؤية إسلامية])، مجلة رسالة الخليج العربي، العدد41 ص89.
[7] - على عبدالحليم محمود ، التربية الجمالية الإسلامية ، ص 162
[8] - الفارابي – تحصيل السعادة ، ص 8
[9] - المرجع السابق ، ص 22 .
[10] ـ الغزالي، إحياء علوم الدين, ج4، ص293.
[11] ـ نفس المرجع السابق. ص300.
Le succès .. J'espère que le nouvel écran est toujours
ردحذف